السبت، 30 نوفمبر 2019

زمن البكاء





كانت نُذر الكارثة تقرع أجراسها حول القصر، جنود الظلام يملئون الأفق، يترقبون الإشارة لإقتحام الأسوار.. لم تكن أميرة النور غائبة عن المشهد لكنها كانت ذاهلة عن محتوى الصورة بما هو خارج الإطار..
لم يطل زمن الإنتظار، فقد حلت الفاجعة سريعا حين اقتحم الظلام الأسوار المنيعة بسهولة !
وتدفقت بعد ذلك جحافله بغزارة، فارتطمت بالنوافذ وحطمت البوابات، وانسابت خلال الشقوق لتنثر بذور العتمة في المكان .. تناهى إلى سمع أميرة النور أصوات الغزاة هاهو فحيح الظلام يقترب فماذا عساها تفعل وهي وحيدة أمام هذا الطوفان..
خلص أخيرا إلى حجرتها.. فتسلل مع ذرات الهواء إليها ثم بعد أن امتلئت به الحجرة؛ استجمع اجزاءه لينتصب أمامها بكل ضخامته وينظر إليها في زهو ولسان حاله يقول: كل هذا الأسوار المنيعة لم تمنعك مني....رمقته بإزدراء ثم قالت "لن تعدو قدرك أيها القزم حتى لو تضخمت أضعاف أضعاف حجمك ".. امتلأ غيضا فراح بكل صفاقته البغيضة يُشكّل سحبه الكثيفة النتنة أمام عينيها في مشهد مرعب تنبأ ملامحه بمجيء زمن تنتصب فيه سرادق العزاء على مد البصر.
بدت عينه المشتعلة شرهة جدا، ومتعطشة لإلتهام ذلك النور المشع من جسدها؛ الذي طالما أشعره بالنقص والخزي والإهانة..
أصابتها تلك النظرات الشيطانية بدوار مرهق أزداد إلى درجة الغثيان عند اقترابه منها..ونفثه ما يشبه الرذاذ المتفحم ليسفع وجهها المتوهج..
أمتلأ صدرها بالرعب، وانكمشت روحها، وزحف الخوف إلى كل خلاياها،ليستحث قواها للمقاومة فاستجمعت شجاعتها لترد غائلة هجومه الذي صار وشيكا..
كانت تشعر أنها تطفو في بحر من الظلمة، تشل برودته حركتها وتزحف نحوها دواماته المرعبة.. أدركت أن معركتها خاسرة أمام جحافل الظلام التي تدفقت كالسيل الجارف لكنها لم تكن تملك الكثير من الخيارات ..فإما الدفاع أو الإستسلام..
اندفعت بكل بسالة تقاوم طوفان الظلام الهادر وتمزق ذلك الليل بخيوط النور التي تبثها هنا وهناك.. لكن ولأن الكفتين غير متكافئة فكل ما تفعله يتبدد سريعا بهجمات أقوى وأشد..
 استنزفت قواها بعد حين، وضعفت حركتها، وقل تركيزها فأستغلت الفرصة كائنات شبحية ذات ملامح شيطانية تسللت عبر جراحها النازفة إلى داخل جسدها وبدأت تنهش هيكلها من الداخل ،وتحقنه بالظلمة والسواد ..
ها قد حلّ من جديد زمن البكاء  ..ليملئ الحزن الأرض والسماء..
كانت مقاومتها العظيمة غير مجدية،لقد أحاطت بها ظلمات بعضها فوق بعض..رفعت بصرها أخيرا إلى السقف "آه لم يتلوث بعد بدخان هذه العتمة"
 لازال هناك وميض أمل يلمع في عينيها حاولت أن تبعث صرخة استغاثة لعلها تنفذ إلى الأعلى لكنها لم تفلح، لقد أُنهكت قواها. حاولت مجددا لكن صرخاتها بلا صوت .. شعرت ببرودة الظلمة المحقونة في أعماقها: "يا آلهي إنها باردة، موحلة، نتنة! كيف لي أن أقاوم هذا الطوفان وحدي وهو يتمدد بهذه السرعة القاتلة". أدركت أنها عالقة في مستنقع من العتمة ولم يتبق إلا أن تنفذ بروحها إلى الأعلى وتترك لهم هذا الجسد.. عاودت النظر إلى السقف وهي تُتمتم بصوت مجروح: لقد عادوا يارب .. عاودا وهم يحملون الموت والدمار .. 
اختنق صوتها بالدموع التي انهمرت بسخاءٍ على خدها الوردي الذي غزاه الشحوب فجأة دونما نذير ..
وبينما هي غارقة في ابتهالاتٍ مكسورة اقتحم الظلام جسدها الغض حتى وصل إلى أهم جزء فيه.. فانشب مخالبه الآثمة لينتزعه بمساعدة كائناته الشبحية التي مهدت له العبور إلى الجسد الطاهر!
رأت قلبها يتمزق بين أنياب الظلام،انكشف لها وجه عدوها الكالح وهو يلوك قلبها بين أشداقه ويحدق بكل صفاقة في وجهها..كان المنظر ثقيلا على نفسها جعل الأسى الكامن في أعماقها ينمو ويتعملق حتى ملئ روحها المأسورة في جسد معتم!
انسابت الأعوام بين يديها،غير آبهةٍ بـ أوجاعها ..ستة عشر عاما وروحها تقاوم الذبول رغم انطفاء جسدها.. استبد بها الحزن وكساها ثوبا رمادياً يخفي معالم قوامها الجميل.
تغير العالم سريعا.. وغفل عن قصرها المنيف وحسنها الفاتن ..أحست ببرودة التجاهل تسري في أوصالها، أطرقت بنظرها إلى الأرض كانت ترى أمواج تلك الكائنات الشبحية الآتية من الشرق تنساب من تحتها وعن يمينها وشمالها.أدركها التعب وراحت تترنح كثمل أسرف في الشراب يوشك على السقوط..!
وفجأة وفي غمرة انتشاء الظلام وجنوده بانتصاراتهم خفق صوت حنون دافئ في أرجاء القصر لم تعلم من أين يأتي.. لكنها كانت تشعر به قريبا منها..تحس بدفء أنفاسه من حولها:
 "كيف لك أن تسقطي أمام هذه الحثالة؟ إياك أن يصلوا إلى مبتغاهم"  "هذا كله وترى أنهم لم يصلوا بعد!!" 
"أجل لم يصلوا بعد..فهم يريدون أن يقتلوا روحك ..بعد أن اطفأوا جسدك..فيفنى أثرك من الأرض..."
 برق أمام عينيها الجواب كشهاب شق سدف الليل المحيط بها.. جعلها تجثو على ركبتيها وهي تردد في صوت واهن " لا..هذه العتمة لن تمحو أثري" 
خيّل للظلام وجنوده أنها سقطت فامتلئ الفضاء بصرخات الإنتصار الآثمة ..أما هي فقد استندت إلى ذراعيها المرتعشة وراحت تئن من ثقل زمن الإنحناء بعد أن كانت رمزاً للكبرياء الباذخ، وانثالت عليها أنهار من الذكريات وغرقت في أمواج الحنين  لزمن لا يعود.. حتى إذا استبد بها الشوق لتلك الأيام الخوالي،، انبعث في روحها دفء ذلك الصوت من جديد .. واستولى عليها شعور أشبه بالإفاقة بعد الثمل، شعور أنه ليس الظلام و كائناته الشبحية ما ينبغي أن أقاومه؛ فما كان للظلمة مهما بلغت من طغيان أن تقوى على اقتحام أسواري المنيعة.. مكمن العلة في الداخل وهذا الغبش الذي ران على بصري زمنا طويلا افقدني رؤية الأشياء على حقيقتها.. 
 لقد كلفني هذا الغبش عمرا وصحة وشبابا .. لكن لا بأس "الخسارة التي تزيدك وعيا لا تعد خسارة" ثم إن ثمن الصحو في زمن الغفلة باهظ جدا..لا بد أن تدفعه من دمك وعمرك وأرضك..!!

هناك تعليق واحد:

  1. الكاتبة تلبست حزن ابي العلاء والرافعي وسبرت روح ايليل ابي ماضي وتلاعبت مثل أدهم الشرقاوي وقطعت كاحلام مستغانمي مع جمال ما سرقت من اسلوبية هؤلاء الادباء الا اننا نرى انها قادرة على ان تكتب باسلوبها ففيه ومض روح تثب على التقليد وترسم الابداع .

    ردحذف

صفحات مشرقة من تاريخ أمير المشرق.. خالد بن عبدالله القسري

  عند القراءة في التاريخ الإسلامي تجد أن الأفكار المسبقة والانحيازية والأنماط الجامدة قد تسللت إلى مختلف النصوص التاريخية ومثالاً على ذلك م...