السبت، 23 يناير 2021

حقيقة إتلاف المغول لمكتبات بغداد ورميهم الكتب في نهر دجلة


 


ليس كل ما يرويه التاريخ صحيحاً؛ فهو نتاج بشري يرافقه النقص والخلل والوضع. وكثير من الوقائع المدونة في بطون الكتب تفتقر إلى الدقة والموضوعية وفيها من التهويل والمبالغة ما لا ينسجم مع البحث العلمي والقراءة الواعية الحصيفة.

 ومن المبالغات التي تكاد تجمع عليها المدونات التاريخية ما سجله المؤرخون ورواة التاريخ حول واقعة نهب وحرق المغول لمكتبات بغداد وإتلافهم الكتب في نهر دجلة. قد يخيّل للقارئ أن الرواية التاريخية هنا وقعت تحت وطأة المواقف الانفعالية أو العاطفية وكانت ضحية للمبالغة والغلو. لكن هذه القراءة السطحية لا تنفع مع هذا الحدث التاريخي الذي نحن بصدده، بل وكل الأحداث التاريخية لا سيما تلك التي يتم فيها اقتطاع جزء من الحدث للتلاعب بالتاريخ وإخفاء الحقائق بطريقة ذكية تمحي ملامح الجريمة التي ارتكبت!

وأستحضر هنا إحدى الضوابط التأصيلية في قراءة التاريخ وكتابته التي ذكرها الدكتور طه الدليمي في كتابه هكذا نقرأ التاريخ وهكذا نكتبه، ألا وهي “قراءة ما بين السطور فحتى نتمكن من قراءة النص التاريخي قراءة أقرب إلى الحقيقة نحتاج إلى تقنيات تستنطق النص – أو تسكته – وتستخرج خباياه التي لا تفصح عنها حروفه المسطورة”[1] فهلمّ لنقرأ هذا الحدث قراءة واعية بعيدا عن النظرة السطحية ونستنطق تفاصيله لنستخرج الملاحظات الخافية من تحت السطور.


ماذا قالت المصادر التاريخية عن مصير مكتبات بغداد إبان الغزو المغولي

أولا: سنتطرق للمصادر التي تتهم المغول بإتلاف الكتب وخزائنها. فمن أقدم ما ورد عن مصير كتب بغداد وما جرى لها ما ذكره المؤرخ ابن الساعي المتوفى سنة 674هـ  في كتابه مختصر أخبار الخلفاء (ويقال أنهم – أي المغول – بنوا اصطبلات الخيول وطولات المعالف بكتب العلماء عوضاً عن اللبن) ، وأيضا ما أشار إليه ابن خلدون المتوفى سنة 808هـ من أن المغول استولوا على قصور الخلفاء وذخائرها و(ألقيت كتب العلم التي كانت بخزائنهم جميعا في دجلة، وكانت شيئا لا يعبر عنه، مقابلة في زعمهم بما فعله المسلمون الأوائل في كتب الفرس وعلومهم)، ويذكر ذلك أيضا القلقشندي المتوفى سنة 821هـ في كتابه صبح الأعشى في صناعة الإنشا فيقول: (ويقال أن أعظم خزائن الكتب في الإسلام ثلاث خزائن، إحداها خزانة العباسيين ببغداد، وكان فيها من الكتب ما لايحصى كثرة ولا يقوم عليها نفاسة، ولم تزل على ذلك إلى أن دهمت التتار بغداد، وقتل ملكهم هولاكو المستعصم آخر خلفائهم ببغداد فذهبت خزانة الكتب فيما ذهب، وذهبت معالمها وأعفيت آثارها). أما ابن تغري بردي المتوفى سنة 874هـ فيقول في كتابه النجوم الزاهرة: ( وخربت بغداد الخراب العظيم، وأُحرقت كتب العلم التي كانت بها).

أما المصادر التي سكتت عن مصير الكتب في مأساة بغداد ولم تذكر شيئا عن حادثة إتلاف الكتب برميها في نهر دجلة أو حرقها، فمن أهمها كتاب مؤرخ المغول رشيد الدين فضل الله الهمذاني المتوفى سنة 718هـ  المعروف بـ جامع التواريخ؛ فقد سكت عن مصير الكتب والمكتبات ، بينما ذكر القتل والنهب والإحراق والاستيلاء على قصور الخلفاء. وكذلك اليونيني صاحب ذيل مرآة الزمان المتوفى سنة 726هـ . وأيضا تاريخ أبي الفداء المتوفى سنة 732هـ ، والذهبي المتوفى سنة 748هـ وغيرهم من المتأخرين كابن العماد الحنبلي المتوفى سنة 1089هـ. فهذه المصادر لم تذكر شيئا عن مصير مكتبات بغداد وقد يفيد السكوت عدم حصول أي حادث للكتب.

بقي أن نذكر المصادر التي يمكن أن نقول عنها أنها سلطت الضوء على الزاوية التي لم يتحدث عنها المؤرخون السابق ذكرهم، والتي أنارت الطريق للكشف عن حقيقة الحدث، وأن مكتبات بغداد إنما تم نهبها وسرقتها بحجة “الإنقاذ” ، فأهمها كتاب معجم الآداب في معجم الألقاب لابن الفوطي حيث يذكر في ترجمته لابن أبي الحديد ما نصه: (ولما أخذت بغداد كان ممن خلص من القتل في دار الوزير مؤيد الدين مع أخيه موفق الدين، وحضر بين يدي المولى السعيد خواجة نصير الدين الطوسي وفوّض إليه أمر خزائن الكتب ببغداد مع أخيه موفق الدين وتاج الدين علي بن أنجب” ابن الساعي”..) وهنا نسأل: كيف يعيّن مسؤولا على أمر لا وجود له إذا كان حقاً دمّر المغول مكتبات بغداد واتلفوا كتبها في نهر دجلة!!

تحليل المعلومات

الآن وبعد أن أوردنا ما ذكرته المصادر التاريخية عن مصير كتب بغداد، ينبغي أن نتوقف قليلا وننظر أي هذه المصادر هو الأهم في هذه القضية:

سقوط بغداد حدث في القرن السابع، ولمعرفة ماحدث حقا ينبغي أن نرجع إلى كتب المؤرخين الذين شهدوا تلك الأحداث وكانوا معاصرين لها، ثم إلى المؤرخين قريبي العهد من تلك الأحداث. وفي هذه القضية نجد أن أهم كتابين يمكننا الرجوع إليهما هما “الحوادث الجامعة والتجارب النافعة في المائة السابعة” ، و”معجم الآداب في معجم الألقاب” وكلاهما لابن الفوطي الذي أُسر في واقعة بغداد ثم تخلص من الأسر، فكان مشرفا على الكتب بالمستنصرية ثم أميناً لمكتبة الرصد بمراغة، وأيضا كتاب مختصر أخبار الخلفاء المنسوب لابن الساعي والذي يبدو أنه قد طاله شيء من التزوير والتحريف؛ فابن الساعي كان ببغداد حين دخلها المغول، فلماذا أورد الخبر بصيغة التمريض والتشكيك، ولم يجزم بالأمر وهو شاهد على العصر؟! ثم أنه ممن أوكل إليه مسؤولية خزائن الكتب بعد سقوط بغداد[2] ! مما يشير إلى أن كتاب مختصر أخبار الخلفاء المنسوب إلى ابن الساعي قد امتدت إليه يد التزوير والتحريف.

السؤال الذي يطرح نفسه: ما السر وراء قلب كل هذه الحقائق وتحريف وقائع المأساة وتزييف أحداثها! ولماذا شاعت رواية إغراق الكتب وسادت، وتم نقلها من جيل إلى آخر حتى غدت مسلمة لا يشوبها شك ولا تحتاج عند المؤرخين إلى إعادة نظر وتمحيص، في حين بقيت الرواية الأخرى مطوية لا تكاد تذكر!

إن هذه الانتقائية في رواية الحدث والمبالغة الشديدة في تصوير جريمة الإغراق والترويج المكثف لها إنما هو جزء من مخطط يراد به التلاعب بالذاكرة التاريخية للأمة عن طريق استغلال جرائم المغول الوحشية وتسليط الضوء عليها للتغطية على جرائم أخرى ومجرمين آخرين استفادوا من الغزو المغولي لتنفيذ جريمتهم بحق تراث الأمة الفكري!

لقد تم نهب مكتبات بغداد ونقلت محتوياتها النفيسة إلى مراغة في بلاد العجم بحجة “إنقاذها” من عبث الغزو المغولي بينما ذكرت المصادر التاريخية التي شهد أصحابها الأحداث وعاصروا الغزو أن المغول لم يدمروا خزائن الكتب كما يشاع بل أوكلوا أمرها لنصير الدين الطوسي الذي استولى عليها ونقل أكثرها إلى مكتبة الرصد بمراغة وقد كانت عظيمة جدا يقدر ما كان فيها من الكتب بـأربعمائة ألف مجلد مكتوب باليد،  ذكر ذلك ابن الفوطي في كتابه الحوادث الجامعة والتجارب النافعة، وأشار إلى ذلك أيضا الصفدي[3] في ترجمته لنصير الدين الطوسي قائلا: (فابتنى نصير الدين الطوسي بمدينة مراغة قبة ورصداً عظيماً واتخذ في ذلك خزانة عظيمة فسيحة الارجاء وملأها من الكتب التي نهبت من بغداد والشام والجزيرة حتى تجمع فيها زيادة على أربعمئة ألف مجلد)[4].

وممن ذكر هذه الجريمة شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى حيث قال: (لما استولى التتار على بغداد، وكان الطوسي منجّماً لهولاكو، استولى على كتب الناس والوقف والملك، فكان كتب الإسلام مثل التفسير والحديث والفقه والرقائق يعدمها، وأخذ كتب الطب والنجوم والفلسفة والعربية، فهذه عنده هي الكتب المعظمة)[5] ولنا أن نخالف ابن تيمية في قوله: (يعدمها) بل نقلها الطوسي إلى مراغة كما نقل غيرها، وامتدت لها يد التزوير والتحريف كما امتدت لغيرها[6]!

وهذا كله لا يمنع أن يكون الحرق امتدت ألسنة لهيبه إلى بعض الكتب: كثرت أم قلت. لكن الجزء الكبير أو الأكبر نقل إلى مراغة ليحرف ويعود إلينا. كذلك فعل الغرب بخزائن كتب العرب في الأندلس حين سقوطها بعد قرابة 300 سنة من سقوط بغداد. لقد عملوا مجازر للحرق هناك، ثم انتهبوا إلى ما بقي منها وجعلوها في خزائن خاصة وفرغوا مئات المزورين على امتداد مئات السنين ليحرفوا ويعدموا أسماء المؤلفين الأصليين وينسبوا هذه الغنائم إلى أسماء أخرى.

إن رواية تحول مياه دجلة إلى اللون الأسود جراء رمي المغول الكتب فيه رواية ضعيفة جداً، وربما صنعت للفت النظر عن جريمة السرقة الهائلة لتراث الأمة ونقله إلى “مراغة، التي ارتكبها الفرس؛ فهناك من استولى على هذه الكتب ونقلها الى هناك لتمتد بعد ذلك يد التحريف وتطال الكثير من تراثنا المنهوب، ولتختفي الكثير من الأصول والتأليف التي لم يصلنا إلا عناوينها، ويصبح الطوسي من بين الذين اشتهروا بكثرة التأليف والتصنيف في مختلف العلوم والفنون المعروفة في عصره، وهذا ما لم يعرف لفارسي من قبل ومن بعد خارج نطاق المزاعم والتهاويل الفارسية! وكان للطوسي سلف هو أرسطو حين فعل ما فعل بمخطوطات كتب الشرق العربي التي أرسلها إليه الإسكندر المقدوني في الربع الاول من القرن الرابع قبل الميلاد، وبها صار أرسطو المعلم الأول!


____________________________________________________

[1] هكذا نقرأ التاريخ وهكذا نكتبه، ص76 ، د.طه حامد الدليمي

[2] ذكر ذلك ابن الفوطي في كتابه معجم الألقاب

[3] كتاب الوافي بالوفيات

[4] الوافي بالوفيات ، 147/1 ،صلاح الدين خليل الدين الصفدي

[5] مجموع الفتاوى ، 111/13 ، شيخ الإسلام ابن تيمية

[6] ثمة مصادر أخرى ذكرت خبر نقل الطوسي للكتب إلى مراغة: فقد أشار إلى ذلك ابن كثير في البداية والنهاية 161/13 ، وأيضا ابن الكتبي في فوات الوفيات 274/3 ،وكذلك المقريزي في السلوك لمعرفة دول الملوك 510/1


 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

صفحات مشرقة من تاريخ أمير المشرق.. خالد بن عبدالله القسري

  عند القراءة في التاريخ الإسلامي تجد أن الأفكار المسبقة والانحيازية والأنماط الجامدة قد تسللت إلى مختلف النصوص التاريخية ومثالاً على ذلك م...