عند القراءة في التاريخ الإسلامي تجد أن الأفكار المسبقة والانحيازية والأنماط الجامدة قد تسللت إلى مختلف النصوص التاريخية ومثالاً على ذلك ما تراه في معظم دواوين التاريخ من انتقاص وتشويه لتاريخ الدولة الأموية وتضخيم للسلبيات وإغفال الإيجابيات بل ومحاولة طمسها. وما ذلك إلا نتيجة للنمط التقليدي للكتابة التاريخية القائم على سرد الوقائع وجمعها في مصنفات ومجلدات دون كثير اهتمام بـ الجانب النقدي لهذه الوقائع والاخبار خاصة تلك التي تتصل بالهوى الأيديولوجي الشعوبي وما أكثرها.
يقول الدكتور حسين مؤنس في كتابه تنقية أصول التاريخ الإسلامي: (مصادرنا القديمة – بصورة عامة – لا تنصف بني أمية، بل إن المؤلفين في الغالب لا يرضون عنهم، ويرون أنهم ظلمة وجبابرة ، ويذهب البعض إلى اتهامهم بالكفر، حتى أولئك الذين يذكرون فتوحهم وما أضافوا إلى أرض الاسلام، وهو يزيد في مجموعه على ما تم فتحه في العصر الراشدي، حتى هؤلاء يشتدون في الحكم على بني أمية، ولا يخطر ببالهم أن يضعوا الحسنات إلى جانب العيوب والإيجابيات إلى جانب السلبيات، ثم يكون حكمهم بعد ذلك على هذا الاساس). وهذا التشويه والظلم لم يقتصر على خلفاء الدولة الأموية بل شمل ولاتهم المبرزين الذين كانوا على قدر عال من القابلية الإدارية والكفاءة القيادية وممن طال سيرتهم التشويه حتى وصموه بالكفر والزندقة؛ أمير المشرق كما يصفه ابن تيميه: خالد بن عبد الله القسري رحمه الله. هذا الأمير الأموي ذو التاريخ الزاخر بمواقف مشهوده في محاربة الأفكار الهدامة، والحركات الخارجية، وأعماله الجليلة في البناء والأعمار. فلماذا اضطربت المصادر التاريخية في ايراد سيرته؛ وما أسباب هذا التشويه الذي وصل حد التكفير والزندقة؟؟ وما علاقة صاحب كتاب الأغاني فيما تداوله المؤرخون حول سيرة خالد القسري؟
أمير مكة والعراقين.. الذي ظلمه التاريخ
أبو الهيثم خالد بن عبد الله بن يزيد بن أسد بن كرز البجلي القسري؛ أحد خطباء العرب وأجوادهم أمير العراقين[1] لهشام وولي قبل ذلك مكة للوليد بن عبد الملك ثم لسليمان. هذا الأمير الذي ظلمته الروايات التي حرفت عمدا أو شوهت سهوا أو حتى اختلقت اختلاقا من مزوري التاريخ، أنصفته الآثار الباقية غير القابلة للتحريف التي تعد سجلا تاريخيا حياً وشاهدا ماثلا على ما قام به من جهود في خدمة البلد الحرام.
أولا: آثاره في مكة والعراقين
سد الثقبة ” سد القسري”
أقامت الدولة الأموية خمسة سدود في مكة لحماية المسجد الحرام والمشاعر المقدسة من فيضان السيول في مواسم الامطار، اثنان منها كانت على يد خالد القسري وقبله ثلاثة سدود على يد الحجاج بن يوسف الثقفي بين عامي (73 – 75هـ).

أما السدود التي انشأها خالد القسري فبقي من آثارها سد الثقبة وحول موقع هذا السد يقول رئيس مركز تاريخ مكة المكرمة الدكتور فواز بن علي الدهاس: (يقع سد القسري في حي العدل، فبعد الرجوع لكتب التاريخ الموثقة اتضح أن هذا الموقع بني فيه “سد القسري” بركة القسري أو عين الثقبة حيث أمر به الخليفة الأموي سليمان بن عبدالملك في أواخر القرن الأول للإسلام أي قبل 1351 عاماً، ويبعد السد عن جبل ثبير الشاهق 500 متر ولا زالت آثاره قائمة إلى اليوم بسفح جبل ثبير الغربي حيث عملها بحجارة منقوشة ضخمة واحتضنت ماءها في ذلك الموقع ثم أجرى الماء بقصبا وقنوات من رصاص امتدت حتى وصلت إلى المسجد الحرام ما بين المقام وزمزم حيث وضع لها حوضاً تصب فيه)[2]. وأما فيما يروى عن أعماله الاخرى بمكة فهو أول من أدار صفوف الصلاة حول الكعبة وأول من فرق بين الرجال والنساء في الطواف كما قال سفيان بن عيينه. ومما يذكر من أعماله الجليلة ضرب الدراهم وإجادة تخليصها في أيام هشام بن عبدالملك وفي هذا يقول ابن الاثير: “أول من شدد في أمر الوزن وخلص الفضة أبلغ من تخليص من قبله عمر بن هبيرة ثم خالد القسري ثم يوسف بن عمر الثقفي..، وكانت الهبيرية والخالدية واليوسفية أجود نقود بني أمية ولم يكن المنصور يقبل في الخراج غيرها”
أعماله وانجازاته في العراقين
أقام سدا على دجلة لرفع مناسيب المياه وتحويله إلى مجراه القديم ليخفف الضغط على البطائح. وحفر نهر المبارك بالبصرة وحفر أيضا نهر الصلح ونهر خالد، وباجرى ، وتارمانا ، والجامع ، وكورة سابور.
ثانيا: مواقفه المشهودة من أهل البدع وتصديه للمبتدعة ومدعّي النبوة
تصدى خالد القسري لعدد من أهل الضلال الذين أظهروا الكفر والزندقة في عهده ومنهم المغيرة البجلي الذي كان رافضيا خبيثا، أدعى النبوة وفضّل علي على الأنبياء كما ذكر الذهبي، وقد صلبه خالد وأنهى فرقته التي تدعى بالمغيرية. وتصدى أيضا للأحمسي الذي خرج عليه بالكوفة داعيا لمحمد بن عبدالله بن الحسن وكان يقول هو المهدي! فظفر به وبأصحابه. وممن أظهر الكفر والزندقة الجعد بن درهم الذي زعم أن الله لم يكلم موسى تكليما ولم يتخذ ابراهيم خليلا فكان له خالد القسري بالمرصاد فضحى به يوم الأضحى في خطبته المشهورة التي قال فيها: أيها الناس ضحُّوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضحٍّ بالجعد بن درهم؛ إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليما…)
فكيف يتهم من هذا حرصه على الدين والعقيدة في دينه ويرمى بالكفر ظلما وبهتانا!!
2023/5/12
[1] جمعت له ولاية الكوفة والبصرة






