السبت، 3 مايو 2025

محمود الملاح حضور الوعي وغياب المشروع (1)

 


يقول الدكتور طه الدليمي: “غيبوبة الوعي ثم غياب المشروع هما مشكلة المشاكل لدى أهل السنة”.

هذه النظرة الشاملة في تشخيص العلة التي يعاني منها الفكر السائد تنم عن إدراك عميق لمشكلات الحاضر واتخاذها كمنطلق للبحث والتفكير لإيجاد حلول لهذه المشكلات التي ينوء بحملها الواقع السني بكل فئاته ومكوناته الاجتماعية. لذا نجده يذكر هذا المعنى بدقة في مقدمة كتابه (منهاجنا) تحت فقرة الفكرة والمنهج حيث يقول: (إن الفكرة النابعة من المعاناة التي يشهدها الواقع، وما يترتب عليها من منهج علمي وبرنامج عملي.. هي أساس وعماد كل مشروع.)[1].

وهذا التشخيص الدقيق لا ينبغي أن يغيب عن كل من يعمل في هذا الميدان فالفكرة لا بد أن تكون نابعة من الواقع وضمن مشروع ومؤسسة حاضنة تحمي الجهود وتعمل على ديمومة الأفكار واستمراريتها!

شاهد من ذاكرة التاريخ القريب

في ذاكرة التاريخ القريب جدا شاهد حي على صواب هذا التشخيص، ففي خمسينيات وستينيات القرن الماضي – وربما قبل ذلك – تصدى لغيبوبة الوعي التي طالت المجتمع السني في المشرق العربي عامة وفي العراق على وجه الخصوص مفكر كبير وعلامة نحرير لم ينخدع بالدعوات الشائعة في ذلك الوقت حول الوحدة الإسلامية والتقريب بين المذاهب كما يزعم الناعقون بها.. إنه المفكر والأديب الموصلي محمود الملاح رحمه الله، الذي لم يكتب لفكره الإصلاحي الاستمرار لفقدان المشروع الناظم لكل تلك الجهود التي بذلها في سبيل توعية المجتمع السني! بل لقد طال انتاجه الفكري والادبي الكثير من الإهمال والتجاهل حتى قال أحد الباحثين في شعر الملاح: “أسجل هنا بكل أسف أنَّ الشاعر (الملاح)، لم يُمنح القيمة اللازمة له في عصره، وما زال شبابنا لا يعرفه..”[2].

عن هذا الإهمال، بل ومحاولات الطمس والتغييب لهذا المفكر يقول الشيخ عمرو عبدالمنعم سليم في مقدمته لمجموعة “رسائل ومؤلفات الأستاذ محمود الملاح” التي قام بجمعها وإصدارها في ثلاثة مجلدات: (تتبع أخي الدكتور خالد الزهراني مؤلفات الملاح في كثير من مكتبات العالم، وللأسف مع أن فضيلته كان يجدها مثبته في فهارس تلك المكتبات، إلا أنه لا يجد لها أثراً عند طلب تصويرها، أو الاطلاع عليها، فهي إما مفقودة، أو (غير موجودة)، أو قد وضع بدلا منها كتاباً آخر بنفس الاسم ولمؤلف آخر)!

وقبل أن نفصل في الحديث عن هذا المفكر الكبير سنتوقف قليلا لدراسة عصره وماهية هذه الدعوات التي تصدى لها بحزم، وأسباب اغترار بعض النخب في الصف السني بها.

الوحدة الإسلامية وفكرة التقريب بين المذاهب

 شاع في العراق – بعد تأسيس الدولة الوطنية الحديثة في(1921) الدعوة إلى الوحدة الإسلامية فظهرت أصوات تدعو إلى التقريب بين المذاهب من داخل الوسط الشيعي، زاعمةً أنها ترغب بالوحدة والتسامح مع الآخر، والتحاور وفق أرضية مشتركة للوصول إلى حلول بنّاءة ومُثمرة. لقيت هذه الدعوة قبولا في الوسط السني فقد كان هناك أصوات سنية تدعو أيضا للتقريب والوحدة بين المذاهب وهي فكرة ورثوها من جمال الدين الأفغاني صاحب فكرة “الجامعة الإسلامية” للتقريب بين السنة والشيعة وعن طريق العلاقة السلالية الفكرية كما يقول الدكتور طه الدليمي “انتقلت فكرة (الجامعة الإسلامية) من الأفغاني إلى البنا عبر محمد عبدة ورشيد رضا”.

“يمكن تقسيم محاولات التقريب هذه إلى: محاولات فردية ومحاولات جماعية كان من نتائجها: دار الإنصاف وأيضا دار التقريب بين المذاهب الإسلامية”[3].

وقد دعمت هذه المساعي التقريبية من خلال الزيارات التّي قام بها علماء الشيعة من إيران لمصر منها: زيارات عبد الحسين شرف الدين الذّي بادر بالحوار مع شيخ الأزهر آنذاك سليم البشري (سنة 1910)، وتناقش معه في بعض القضايا الخلافية. ثم زيارة محمد حسين آل كاشف الغطاء (سنة 1911) الذي سافر إلى مصر وتحاور مع علماء الأزهر. وزيارة عبد الكريم الزنجاني (سنة 1936) الذّي تناقش في زيارته مع شيخ الأزهر مصطفى المراغي حول تحسين العلاقات بين المسلمين. وأيضا زيارات الشيخ محمد جواد مُغنية ومُرتضى عسكري ومحمد واعظ زادة وهادي خسروشاهي وغيرهم من الذّين ساهموا في دفع عجلة التقريب إلى الأمام[4].

ونتج عن هذه الزيارات “دار التقريب بين المذاهب الإسلاميّة” التي يقول فيها الشيخ ناصر القفاري في كتابه مسألة التقريب بين أهل السنة والشيعة: “هذه المحاولة دعا إليها شيخ رافضي من قم “بإيران” ويدعى محمد تقي القمي في عام ١٣٦٤هـ تقريباً، واستجابت لدعوته ثلة من علماء مصر، ومن زيدية اليمن، وقد اتخذ لها مقراً في القاهرة باسم «دار التقريب بين المذاهب الإسلامية» ، ثم قامت الجماعة بإصدار مجلة باسم «رسالة الإسلام» لخدمة أغراضها.

وقد حملت إلينا مجلة الأزهر “وثيقة هامة” لأحد كبار أعضاء جماعة التقريب وأحد المشاركين في نشأة “الجماعة” وهو الشيخ عبد اللطيف محمد السبكي عضو جماعة كبار العلماء، يصف لنا نشأة الجماعة وخط سيرها، والهدف الذي تسعى لتحقيقه. يقول: (.. جماعة التقريب بين المذاهب الإسلامية، نشط في تكوين هذه الجماعة شيخ شيعي.. يقيم في مصر لعهد قريب أو بعيد، وقد استجاب لدعوته ثلة كريمة من رجالات مصر، ولم يكن يسع مسلماً أن يتخلف عن تلبية الدعوة لتجديد وحدة المسلمين التي هتف بها القرآن أول ما هتف: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا)، (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ).

جذبتني هذه الدعوة، فشرفت بالعضوية المتواضعة بين أولئك الأمجاد، فماذا أجدت جماعتنا وقد مضى عليها أربع سنوات تقريباً؟ نشطت في صدر عهدها إلى تعاقب الاجتماعات، فمرة: للتعارف واختيار الرئيس والوكيل والسكرتير إلخ. ومرة ثانية: لاستقبال ضيف شرقي مسلم سيزور دارنا، دار التقريب، وثالثة: لسماع رسائل وردت من جهات إسلامية، ومن بينها رسالة من النجف – مركز الشيعة – يطلب مرسلوها كلمة تلقى هناك في الذكرى الموسمية للإمام الحسين بن علي رضي الله عنها، ثم يقترح علينا في هذه الجلسة أن تطلب الجماعة إلى الأزهر تدريس الفقه الشيعي إلى جانب مذاهب أهل السنة، ويتوارى الاقتراح في سرعة لأنه قبل أوانه كما همس بذلك من همس. وبعد ذلك توقفت الاجتماعات، وانحصرت الجهود في مجلة تصدرها دار التقريب هذه وتسميها رسالة الإسلام”.

إن المتأمل في هذه الشهادة التي يدلي بها الشيخ السبكي يدرك أن حقيقة الوحدة التي يدعو إليها القوم والتقريب الذي ينادون به ليس إلا وسيلة لنشر التشيع في الوسط السني وتلميع صورته عند جمهور السنة. وقد استهدفوا في دعوتهم هذه الازهر وعلماءه لما للأزهر من مكانة وتأثير في العالم الإسلامي. لكن “وعلى الرغم من قيام الشيعة بتأسيس دار التقريب ومجلتها وجماعتها واستجابة بعض علماء الأزهر لفكرتهم لم نر لدعوة التقريب أي أثر بين علماء الشيعة في العراق وإيران وغيرهما، فلا يزال القوم مصرين على ما في كتبهم من ذلك الطعن الجارح والتصوير الكاذب لما كان بين الصحابة من خلاف”[5].

انبرى لهذه الدعوى المريبة رجل قلَّ أمثاله في العراق، هو الأستاذ (محمود الملاح) وكان لدعاتها بالمرصاد، خاصة دعاة الوحدة هناك، وعلى رأسهم الشيخ محمد مهدي الخالصي الذي تولى كبر هذه الدعوة الفاسدة في محاولة منه لاختراق الصف السني داخل العراق والترويج للعقيدة الشيعية في المجتمعات السنية بحجة الوحدة والتقارب. لم يقتصر الملاح على بلده، بل وجّه صوت النذير وسهام التحذير إلى الأقطار الأخرى التي تسللت إليها هذه الدعوة المزيفة، لا سيما جمهورية مصر قائلاً في إحدى مقالاته: (إن مستقبل شقيقتنا الكبرى غير مأمون ما دام لدار “التخريب” هناك شؤون وشجون. وقد زحف الخط إلى الشام لما نسي قول الشاعر: أأيقاظ أمية أم نيام؟!).

 لقد كانت دعوات الوحدة ومحاولات التقريب من جانب الشيعة مجرد ستار لنشر التشيع في الأوساط السنية، بينما محاولات التقريب من الجانب السني في تلك الفترة باءت جميعها بالفشل نتيجة للتعنت الشيعي الذي لا يرى طريقا للتقريب إلا أن يوافقهم أهل السنّة في اعتقادهم في الصحابة ويغضوا الطرف عن كل تلك الطوام التي تزخر بها كتبهم.

 فبقيت الدعوات السنية بلا ثمرة ترجى بينما جنى الشيعة من تلك المحاولات التقريبية العديد من الثمار فقد أفادوا من هذه الدعوات في نشر كتبهم وبث دعايتهم والترويج لـ “مذهبهم الخامس” كما يزعمون في ديار أهل السنة!

وما نشأت هذه المفارقة إلا لأن السنة كما قال الدكتور طه الدليمي: “يجهلون التكوينة العقلية والتركيبة النفسية للفارسي. وحين تجهل المنطلقات الفكرية لخصمك ودوافعه النفسية الخفية، فلا تعجب إن تخلفت عنه بسنة ضوئية بحساب الكارثة التي حاقت بك..”.


[1] د. طه حامد الدليمي: منهاجنا، ج1 ، ص: 5 .

[2] محسن الحبيب التونسي: الملاح الشاعر

[3] ناصر القفاري: مسألة التقريب بين أهل السنة والشيعة

[4] زكي الميلاد: http://kalema.net/home/article/view/1373

[5] ناصر القفاري: مسألة التقريب بين أهل السنة والشيعة


 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

صفحات مشرقة من تاريخ أمير المشرق.. خالد بن عبدالله القسري

  عند القراءة في التاريخ الإسلامي تجد أن الأفكار المسبقة والانحيازية والأنماط الجامدة قد تسللت إلى مختلف النصوص التاريخية ومثالاً على ذلك م...