السبت، 11 يناير 2025

نقط المصحف شاهد على الجهود الاصلاحية للحجاج بن يوسف الثقفي

 


كتب القرآن في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه خاليا من الشكل والإعجام[1]، ولم يخش عليه من الالتباس؛ لأن العرب يدركون القرآن بسليقتهم، وأرسلت النسخ المكتوبة إلى الامصار ونسخوا على غرارها مصاحف كثيرة خالية من النقط والشكل. وخلال تلك الفترة توسعت الدولة الإسلامية، ودخلت أممٌ كثيرة لا تتكلم العربية في الإسلام؛ ففشت العُجمة بين الناس، وكثر اللحن، حتى بين العرب أنفسهم؛ بسبب مخالطتهم لغيرهم من العجم وبدأ يظهر اللحن رويدا رويدا. ولما كان المصحف غير منقوط خُشي عليه أن يتطرق له اللحن والتحريف. “وكان أول من التفت إلى نقط المصحف الشريف هو زياد بن أبيه؛ ولذلك قصة، وهي: أن معاوية بن أبي سفيان كتب إلى زياد عندما كان واليًا على البصرة (٤٥-٥٣هـ‍) أن يبعث إليه ابنه عبيد الله، ولما دخل عليه وجده يلحن في كلامه، فكتب إلى زياد يلومه على وقوع ابنه في اللحن، فبعث زياد إلى أبي الأسود الدؤلي يقول له: (إن هذه الحمراء قد كثرت وأفسدت مِن ألسنة العرب، فلو وضعت شيئًا يُصلح به الناسُ كلامَهم، ويعربون به كتاب الله). فاعتذر أبو الأسود فلجأ زياد إلى حيلة؛ بأن وضع في طريقه رجلا وقال له: إذا مرّ بك أبو الأسود فاقرأ شيئًا من القرآن، وتعمد اللحن فيه. فلما مرّ به قرأ قوله تعالى: أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ، بجرّ لام رسوله، فشق ذلك على أبي الأسود، وقال: (عزّ وجه الله أن يتبرأ من رسوله). وقال لزياد: (قد أجبتك إلى ما طلبت، ورأيت أن أبدأ بإعراب القرآن)”[2].

استمر بعد ذلك اهتمام ولاة وخلفاء الدولة الأموية بالقرآن الكريم من خلال اهتمامهم بالكتابة العربية فبذلوا الجهود لضبطها والمحافظة على قراءة العربية وبخاصة القرآن الكريم بصورة صحيحة. وقد برز الحجاج بن يوسف الثقفي في هذا الجانب فكان لإصلاحاته اللغوية أبلغ الأثر في المحافظة على كتاب الله من اللحن والتحريف والتصحيف.

 دور الحجاج بن يوسف الثقفي في ضبط الكتابة العربية

أولى الحجاج عناية خاصة بالقرآن الكريم وليس ذلك بالأمر الغريب فقد نشأ وتأدب في كنف والده الذي كان يعلّم أبناء الطائف القرآن، وهو من سادات ثقيف واشرافها، كما أن الحجاج أيضا عمل بعد أن شب في تدريس القرآن وتعليم العربية، ثم أنه – رحمه الله – كان محبا للقرآن يكثر من قراءته والاستشهاد به في خطبه. وعرف عنه أن كان يقدّر أهل القرآن ويكرم حفظته.

وقد ذكرت آنفا أن والي العراق في خلافة معاوية – رضي الله عنه – زياد الثقفي كان أول من تنبّه لخطورة اللحن والتصحيف في ذلك العهد المبكر؛ فقام بتكليف الدؤلي الذي وضع النقط التي تميّز الحركات والتنوين؛ لكن هذا الضبط لم يكن كافيا فاستمر اللحن والخطأ.

أدرك الحجاج خطر استمرار هذا اللحن والتصحيف وما قد يسببه من فرقه وخلاف بين جماعة المسلمين. وقد أورد ذلك العسكري في كتابه شرح ما يقع فيه من التصحيف والتحريف وبين أنه لما:” كثر التصحيف وانتشر بالعراق، فزِع الحجاج إلى كُتّابه، وسألهم أن يضعوا لهذه الحروف المشْتَبِهةِ علامات.”[3] وفي موضع آخر ذكر أن إعجام القرآن تم في عهد الحجاج وقد أدى بذلك خدمة عظيمة للغة العربية، وساعد في تطور الكتابة العربية ونحوها وآدابها. ومن جهوده أيضا تجزئة القرآن، ووضع إشارات تدل على نصف القرآن وثلثه وربعه وخمسه، ورغّب في أن يعتمد الناس على قراءة واحدة، وأخذ الناس بقراءة عثمان بن عفان، وترك غيرها من القراءات، وكتب مصاحف عديدة موحدة وبعث بها إلى الأمصار.

إن هذا الجهد المبذول في الإصلاح اللغوي وضبط قراءة القرآن الكريم ليس إلا حلقة في سلسلة طويلة من الإصلاحات السياسية والإدارية والاقتصادية والزراعية التي قام بها الحجاج إبان ولايته على العراق والمشرق. وبذلك ندرك أن تاريخ أعلام الإسلام كُتب بأيدٍ مختلفة التوجّه، وقراءة هذا التاريخ دون إدراك لهذا الأمر سيجعل سيرة هؤلاء الأعلام مشوهة في أعيننا، لذا لا بد لمن يريد الإفادة من دواوين التاريخ أن يفتح عينه ويستحضر وعيه أمام كل سطر كتب، فيطالعه بوعي ويقظة وحذر؛ ولا يكون ذلك إلا من خلال قراءة واعية لا تخضع للأحكام المسبقة التي غرست في الوعي الجمعي للأمة تجاه الكثير من الشخصيات التاريخية العظيمة.


[1] الاعجام في اللغة: إزالة الإبهام، أَعجَم الكتاب: أزال عُجمته وإبهامه بوضع النقط على الحروف لتمييز الحروف المتشابهة كالتاء عليها نقطتان، والياء تحتها نقطتان ونحو ذلك.

[2] محمد سالم العوفي، تطور كتابة المصحف الشريف وطباعته.

[3] الحسن بن عبدالله العسكري، شرح ما يقع فيه من التصحيف والتحريف.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

صفحات مشرقة من تاريخ أمير المشرق.. خالد بن عبدالله القسري

  عند القراءة في التاريخ الإسلامي تجد أن الأفكار المسبقة والانحيازية والأنماط الجامدة قد تسللت إلى مختلف النصوص التاريخية ومثالاً على ذلك م...