السبت، 11 يناير 2025

دور الروايات الشعوبية في تشويه سيرة الأمير الأموي خالد القسري

 

ينطلق التاريخ من الوثائق والمصادر الأثرية والمكتوبة، هذا أمر لا شك فيه، وهو ضرورة ملحة بالنسبة للكتابة التاريخية، وبدونه تفقد قيمتها الحقيقية، فيغدو الأمر وكأنه مجرد قصص أسطورية أو روايات مختلقة.

لكن هذه الضرورة الملحة لا بد معها من اتباع أسس وقواعد علمية كالتحري الدقيق للموضوعية، والابتعاد عن الذاتية والإيديولوجية وإلا جاءت مشوّهة ومُشوٍّهة وهذا ما حدث لتاريخ الدولة الأموية؛ فقد لعبت العداوة والبغضاء التي تغذيها الشعوبية دورا هاما في تزوير الحقائق وتشويه المنجزات وكان ممن طالت سيرته الروايات المُشوِّهة الوالي الأموي خالد بن عبد الله القسري الذي ذكرت في المقال السابق نبذة يسيرة عن منجزاته التي خلدها التاريخ كشاهد حق لا يمكن تزويره.


لكن الذي يقرأ في المصادر التاريخية حول سيرة هذا القائد الأموي الفذ يجد تناقضا عجيبا واضطرابا مريبا في تناول المؤرخين لسيرته ما بين مادحٍ وقادح. ثم ما إن تتبع أمر هذا الاضطراب والتناقض حتى ينكشف لك طرف منه لتدرك أن للشعوبية يد طُّولَى في هذا التناقض؛ فقد تأثر المؤرخون بما نقله صاحب كتاب الأغاني ابي الفرج الأصفهاني الشيعي الشعوبي الذي اعتمد في ترجمته للقسري على الكذابين والمجروحين وذلك نهجه في كتابه و”من تأمل كتاب الأغاني رأى كل قبيح ومنكر” كما قال ابن الجوزي.

ماذا قالت كتب التاريخ عن الوالي الأموي خالد بن عبد الله القسري

أولا: اتهامه بالنصب

قال الذهبي: (خالد بن عبد الله القسري الأمير: ناصبيٌ سبّاب)، وقال في موضع آخر: (صدوق؛ لكنه ناصبي جلد)، وقال أيضا: (صدوق؛ لكنه ناصبي بغيض، ظلوم. قال ابن معين: رجل سوء يقع في علي). ثم تجده في موضع ثان يقول: (وكان جوادا ممدحا، معظما، عالي الرتبة، من نبلاء الرجال، لكنه فيه نصب معروف).

ويقول الدكتور بندر الهمزاني حول اتهام الذهبي لخالد القسري بالنصب وسب علي رضي الله عنه: (ما ذكره الذهبي قد وجدته في خبرين رواهما ابن عساكر من طريق الفضل بن الزبير قال: سمعت خالدا القسري وذكر عليا فذكر كلاما لا يحل ذكره. ومن طريق عبد الله بن أحمد قال: سمعت يحيى بن معين قال: خالد بن عبد الله القسري كان واليا لبني أميه، وكان رجل سوء يقع في علي بن أبي طالب” وعلى كثرة ما طالعته في اعداد هذا البحث من مصادر ومراجع لم أجد سوى هذين الخبرين المذكورين عند ابن عساكر، وعنه انتشرا واشتهرا ..)[1]. وكلا الروايتين لا اسناد لهما، بل الراجح أن هذه الروايات تعتمد في اساسها على أزعومة ” سب علي على المنابر على عهد الأمويين” وقد بين الدكتور طه الدليمي تهافت هذه الاكذوبة في إحدى حلقاته على قناة اعلام التيار السني في العراق. أما اتهامه بالظلم والجور فلإنه أرسل سعيد بن جبير الخارجي إلى الحجاج وهذا الفعل الذي يعدونه خطيئة لخالد القسري هو منقبة يشكر عليها، فسعيد بن جبير كان ممن يرى رأي الخوارج ويدعو للخروج على الخليفة، رغم إحسانه إليه. إذن هو قتيل الشرع والقانون كما قال الدكتور طه الدليمي.

ثانيا: اتهامه في دينه وزعمهم أنه بنى كنيسة لأمه النصرانية

مصدر هذه التهمة هو كتاب الأغاني للشعوبي أبو الفرج الاصفهاني وقد نقلها عنه ابن خلكان بينما لم يذكرها المتقدمون في ترجمتهم للقسري. ويفند الدكتور بندر الهمزاني هذه التهمة فيقول: (وهذا منتهى السخف على الحقيقة؛ لأنه لا يعقل ولا يمكن أن يتصور عاقل بأن يقبل المسلمون آنذاك هذا من خالد؟ كما لا يمكن ولا يتصور عاقل بأن يفعل خالد هذا ثم لا ينقله سوى أبو الفرج في أباطيله وتخاريفه التي لا يعرفها غيره. وهذا خبر عن كنيسة في ظهر قبلة المسجد وفيها ضرب بالناقوس، يعني أنها لم تكن شيئا خافيا، بل كانت معلنة مسموعة للقاصي والداني، فما الذي منع كافة الناس عن نقل هذا الخبر؟ وتركه للأصفهاني المتهم بالكذب لينفرد به دون العالمين؟)[2].

إن هذا التشويه الممنهج الذي طال كل ما يمت للتاريخ الأموي بصلة يجعلنا ندرك مدى أهمية ما يدعو إليه الدكتور طه حامد الدليمي من تجديد في الكتابة التاريخية العربية على أساس الهوية السنية؛ فهذا المطلب الحضاري يفرضه واقع المجتمعات العربية الذي بات في حاجة إلى وعي فكري وتاريخي جديد ينظر للتاريخ من خلال مشكلات العصر، لننتقل بالتاريخ من مستوى البحث في مظاهر الأحداث إلى محاولة فهم دوافعها الكامنة حتى لا يستمر الشعوبيون في نخر ثقافتنا برواياتهم المسمومة فيشكلوا من خلالها معرفتنا التاريخية كما يشتهون.


[1] خالد القسري حياته وتاريخه

[2] ترجم كل من ابن قتيبة وابن حبيب وابن الكلبي لخالد القسري وذكروا أنه من أبناء النصرانيات ولم يذكروا شيئا عن بنائه كنيسة لأمه.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

صفحات مشرقة من تاريخ أمير المشرق.. خالد بن عبدالله القسري

  عند القراءة في التاريخ الإسلامي تجد أن الأفكار المسبقة والانحيازية والأنماط الجامدة قد تسللت إلى مختلف النصوص التاريخية ومثالاً على ذلك م...