الأحد، 24 يناير 2021

تزوير تاريخ الشرق الأدنى القديم

 


حاول “صناع التاريخ” استعمال علم الآثار والمكتشفات الأثرية كركائز لتدعيم وإثبات “أكاذيبهم التاريخية” التي يدّعون، من خلال إيجاد تكامل بين نتائج هذه المكتشفات والنص التوراتي الذي افترضوا صحته ومن ثم اعتمدوا عليه كمصدر تاريخي لمنطقة الشرق الأدنى القديم[1]، وقد قال الفرنسي إرنست رينان أحد دعاة مدرسة علم الآثار التوراتي : (إن التوراة يمكن أن تتضمن تاريخاً) منتهكاً بذلك مبدأً أولياً من مبادئ الجغرافيا والذي يقضي بأن التضاريس الأرضية أكثر أهمية من الخريطة!!

لكن هذا التزييف الصارخ لتاريخ الشرق الأدنى القديم لم يكتمل، فقد أثبتت الأكتشافات الأثرية في المنطقة زيف الرواية التوراتية التي كانت تتمتع بمركز الصدارة في أي بحث أو دراسة في تاريخ الشرق الأدنى والتي اختلقت تاريخا مزيفاً للمنطقة بأسرها، ومنحت الفرس واليهود مركزا محوريا فيه. لكن علم الآثار أسقط وإلى غير رجعة رواية عصر الآباء كما يقول المؤرخ العراقي أحمد سوسة[2].

أدت هذه الكشوفات إلى ظهور تيار جديد مناهض لدعاة مدرسة علم الآثار التوراتي يؤكد على ضرورة استقراء الوقائع الأركيولوجية (علم الآثار) استقراءً موضوعياً وحراً، بمعزل عن الرواية التوراتية، ونشر النتائج الأثرية والحقائق الجديدة التي تكشف عنها، وقد تبلور هذا الاتجاه الجديد على أيدي علماء آثار وباحثين ومؤرخين أوروبيين وعرب ومن ثم تحول إلى تيار فكري وعلمي نتج عنه الكثير من البحوث والدراسات والمؤلفات التي تفضح التزييف اليهودي للتاريخ وتحمّله المسؤولية الكاملة عن هذا العبث التاريخي، وتثبت أن علم الآثار التوراتي الذي اعتمد على نصوص التوراة في كتابة تاريخ المنطقة إنما هو حيلة يهودية لإسقاط جغرافية التوراة على فلسطين ومحيطها!

هنا استميح القارئ عذراً واطلب منه التوقف وإعادة قراءة السطر السابق بتمعن وبعقل متجرد من كل التأثيرات التي رسّختها الثقافة السائدة؛ مع استذكار ما تم طرحه في المقال السابق حول زمن كتابة التوراة ودور الفرس في ذلك، لنلتقط معاً رأس الخيط الذي سيوصلنا إلى المزور الرئيس لتاريخ المنطقة العربية.

لقد تم تضخيم دور اليهود في هذا التزوير تضخيماً جعل منه مركز الحدث بل الحدث كله، ويقابل هذا التضخيم إخفاء مريب لدور المهندس الأول (الفرس) لهذه العملية وبذلك تم بناء وعي مزيف  في ذهن الأمة وصُرف نظرها عن المزور الرئيس عندما وجّهت الأنظار إلى هدف ثانوي(اليهود).

ألا تذكرنا العبارة السابقة بشيء؟!

 


بلى أنها تلك الاستراتيجية الماكرة التي قام عليها المخطط الغربي-الصفوي: الدفاع عن الغرب يبدأ من الشرق. هذه الاستراتيجية الخطيرة التي كشف لنا خيوطها الدكتور طه الدليمي وشرحها باستفاضة على موقع التدوينات القصيرة “توتير” في سلسلة تغريدات له كانت أحداها بعنوان  (تفكيك المخطط الغربي – الصفوي إلى عوامله الأولية) ذكر فيها أن هذه القاعدة الخطيرة ”الدفاع عن الغرب يبدأ من الشرق” التي يقوم عليها المخطط الغربي – الصفوي تهدف إلى تحكم الشرق (الفرس والشيعة) بالمشرق العربي بإشراف الغرب الصليبي لتحقيق هدفين أبعد بالنسبة للغرب: توقف التهديد الإسلامي للغرب واستعادة الغرب دوره القديم في السيطرة على الشرق[3]

وليسمح لي الدكتور طه أن اطبّق هذه الاستراتيجية على موضوع هذا المقال لنرى إن كان لهذا المخطط المزدوج دوراً في تزوير تاريخ المنطقة العربية وصنع حضارة مزيفة للفرس:

ابتدأ تأسيس الجمعيات الأثرية في أوروبا منذ العام 1478 م عندما انشئت الجمعية الأثرية لعلماء العاديات في روما قبل أن تبدأ المعاهد المتخصصة والأقسام بالظهور في الجامعات الغربية ، كما أن “المخطط الغربي – الصفوي بدأ مطلع القرن السادس عشر منذ تولي الصفويين الحكم في بلاد فارس سنة 1501 م [4]” وإذا أخذنا في الاعتبار كتاب صمويل بوكارت[5] الذي عاش ما بين 1599 – 1667م والذي يعد أول من وضع الأسس التمهيدية لدراسة الحضارات القديمة على أساس توراتي. فإننا سنصل للنتيجة التالية:

لقد عمل المؤرخون وعلماء الآثار الغربيون على إسقاط روايات التوراة على حقبات تاريخية حقيقية في منطقة الشرق الأدنى القديم ليصنعوا بذلك صلات نسب للتاريخ التوراتي بفلسطين فيثبتوا بذلك حقيقة الوجود التاريخي لليهود في هذه المنطقة وأن فلسطين هي وطن التوراة، وفي نفس السياق يتم تكثيف الحديث عن التفوق الحضاري الآري – وهو مصطلح مخترع لا أصل له كمصطلح السامية – من خلال الترويج للحضارة الفارسية وفرضها كجزء أصيل من حضارات الشرق الأدنى القديم وركن مهم من أركانها، وهذا الترويج وإن افتقر إلى الأدلة والبراهين إلا أنه استقر بعمق في الوعي العالمي حتى صار إحدى الحقائق التاريخية التي يجب أن يسلم بها!!

لتجيء بعد ذلك الثقافة الغربية وتمارس دور الوصاية السلطوية تجاه الثقافات الأخرى ومن بينها الثقافة العربية فكان للمستشرقين والمؤرخين الغربيين أبلغ الأثر في ترسيخ هذه الأكاذيب التاريخية.. ونتيجة لحساسية الأمة العالية تجاه الخطر الغربي واليهودي فقد انطلت عليها الأكاذيب والمزاعم اليهودية وبذلك تم اشغال الأمة بهذا العدو الذي زُرع في أرضها ليؤدي وظيفته التي طالما اتقنها منذ ارتحشستا إلى وعد بلفور!

وفي الوقت نفسه غفلت تماما عن الجزء المتبقي من “الأكاذيب التاريخة المتعلقة بحضارة فارس” حتى رسخت هذه الأكاذيب في الوعي العالمي والعربي نتيجة للزخم الإعلامي و”العلمي” الذي مُنح لها.

 


أعتقد أننا نرى الآن بوضوح الفرع الثاني من الاستراتيجية وهو (تسريب الطاقات) عن طريق صرف نظر الأمة عن المزور الرئيس للتاريخ الذي كتبت نصوص التوراة بأمره وتحت رعايته، وتوجيه الأنظار إلى الكاتب والمنفذ والذي يعد مقارنة بالمزور الرئيس عدواً ثانوياً.. فانصب اهتمام العقل العربي بالعدو اليهودي وانشغل بكشف حقيقة تاريخه المزور وتفنيد مزاعمه حتى اتخمت المكتبة العربية بأدبيات تكشف زيف الوجود اليهودي في فلسطين ودور الصهيونية العالمية في تضليل شعوب المنطقة بالتاريخ المليء بالروايات الخيالية التي لا تخدم إلا المصالح الصهيونية الغربية .. إلخ هذه المواضيع والعناوين التي ضللت بالفعل شعوب المنطقة حين أغفلت خطر الفرس وهم العدو الأول والمزور الرئيس لتاريخ الشرق الأدنى القديم.. فبات من المسلّمات أن نعد الحضارة الفارسية من ضمن حضارات الشرق الأدنى القديم دون أن يرف جفن أو ينتفض وجدان غضبة وغيرة على تاريخ المنطقة، بينما ضميرالأمة حي تجاه أي صوت غربي ويهودي يلمز تاريخ المنطقة أو يدعي أن له فيها حقوقاً….!!


 

___________________________________________

[1] مصطلح يستخدمه التاريخيين والجغرافيين وعلماء الآثار للإشارة إلى الحضارات التي نشأت في ما يسمى اليوم بالشرق الأوسط، وتحديدا :بلاد الرافدين ومصر القديمة وبلاد الشام وإيران القديمة والأناضول

[2] كتاب العرب واليهود في التاريخ تأليف أحمد سوسة. ويُقصد بعصر الآباء جميع الأنبياء والشخصيات الذين عمد محررو التوراة إلى ادراج أسماؤهم في أسفار التوراة تحت مسمى عصر الآباء

[3] https://twitter.com/i/events/1030105536665210880?s=20

[4] المصدر نفسه.

[5] يقول عنه ج.كونتنو في كتابه الحضارة الفينيقية (كان عالماً عظيم القدر في عصره، وبلغ من شهرته أن كرستين ملكة السويد قد استدعته إلى بلاطها هو وتلميذه هويت أسقف افرانش.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

صفحات مشرقة من تاريخ أمير المشرق.. خالد بن عبدالله القسري

  عند القراءة في التاريخ الإسلامي تجد أن الأفكار المسبقة والانحيازية والأنماط الجامدة قد تسللت إلى مختلف النصوص التاريخية ومثالاً على ذلك م...